هل حقاًَ يعي المسؤولون في دول مجلس التعاون حجم وفداحة الخطرين المفجعين اللذين سيأتي بهما المستقبل غير البعيد بالنسبة لعروبة مجتمعات دولهم؟ فالخطر الأول المتمثٍل في عمالة أجنبية، غير عربية، تتدفق بأعداد ضخمة، تستقرُ وتتوالد لتصبح مشكلة اجتماعية وأمنية وسياسية... قد نوقش من قبل كثير من الجهات الرسمية والمنابر، وصدرت بشأنه كثير من التوصيات التي لم تنفذ في أغلبها. وهو حديث ذو شجون سنتركه لمناسبة أخرى. أما الخطر الثاني المتمثل في التراجع المقلق لوعاء الثقافة العربية، ونعني به اللغة العربية ذاتها، فإنه لم ينل نصيباً كافياً من الاهتمام يوازي حجمه ويراعي محوريته في هوية ساكني هذه المنطقة. ذلك أنه إذا ضعُفت اللغة العربية ضمرت الثقافة العربية، والتي من دونها تذوي وتذبل حيوية المجتمعات الإنسانية. ويتجلى هذا الخطر في الآتي: أولاً؛ يعلم الجميع بأن الطلبة خرٍيجي المدارس يعانون من ضعف شديد في لغتهم العربية الفصحى، سواء على مستوى التحدث أو القراءة أو الكتابة. ولذلك يبتعد هؤلاء بعد تخرٌجهم عن التواصل مع مصادر الثقافة العربية، الفكرية والأدبية والعلمية الرصينة. فهم لا يستطيعون قراءة وفهم القرآن الكريم أو الشعر العربي أو كتابات مؤلفين من أمثال الكواكبي وطه حسين وجبران خليل جبران أو محمد عابد الجابري... على سبيل المثال لا الحصر، وشيئاً فشيئاً تقتصر قراءاتهم على الصحف (إذا حدثت) والمجلات التي تستعمل اللغة المبسطة والتي لا تربطهم بالنتاج الفكري والعلمي العميق في ثقافة أمتهم. ومع الوقت يتخلى هؤلاء حتى عن ذلك لتقتصر قراءاتهم على الصحف والمجلات الأجنبية. ثانياً؛ إن الثنائية اللسانية بالنسبة لهؤلاء الطلبة، أي تعلمهم للغة أو لغات أجنبية بالإضافة للغتهم الأم، بدأت تميل أكثر فأكثر لصالح اللغات الأجنبية على حساب اللغة القومية. إن متطلبات العولمة الاقتصادية التي جعلت الشركات الأجنبية الدولية مهيمنة في الأسواق العربية والتي تتطلب الاستعمال الكثيف للغة الأجنبية، أقنعت أهالي الطلبة والطلبة أنفسهم بإعطاء أفضلية لتعلم اللغة الإنجليزية ووضع كل شيء آخر في هامش الحياة التربوية والتعليمية. هنا تبدأ المشكلة الكبرى، ذلك أن العقل أداة للتفكير واللسان العربي مرتبط به كأداة للتعبير، فإذا ضعُفت هذه الأداة وتم التفكير بلغة أخرى، سقط الفرد تحت هيمنة وقوة أصحاب اللغة الأخرى، أي تحت الهيمنة الثقافية للآخرين. ومنذ زمن طويل انتبه ابن خلدون لظاهرة الارتباط القوي بين هيمنة اللغة والهيمنة السياسية. فهيمنة اللغة الإنجليزية لن تعني هيمنة أداة اتصال محايدة، بل ستعني هيمنة تفكير وهوية وولاء عاطفي، ثم ولاء سياسي، لأصحاب تلك اللغة. وقد بدأنا نشاهد جيلاً يفهم قضية فلسطين ومأساة احتلال العراق وتخلف أمته الاقتصادي والاجتماعي من خلال مشاهدته لمحطاتهم التلفزيونية وقراءته لكتبهم. إن ضعف لسان هذا الجيل، لغة وكلاماً، سيحمل كارثة ثقافية، ستتبعها كارثة سياسية في المستقبل المنظور. ثالثاً؛ إن ثنائية اللغة العربية، الفصحى واللهجة المحكية، لن تعصم هذا الجيل من الأخطار التي ذكرنا آنفاً. فالتكلم باللهجات المحلية سيبقي عند هؤلاء القدرة على التفاهم اليومي مع مجتمعاتهم، لكنه لن يكون كافياً لربطهم الوثيق بمنابع ثقافتهم الأساسية، فهذه في مجملها مكتوبة ومحكية باللغة العربية الفصحى التي يُضَحَّى بها الآن على مذابح ادعاءات شتى في عوالم المال والاقتصاد. وفي اعتقادي أن حل مشكلة اللغة العربية كأداة تواصل وثقافة في نفس الوقت ليس بالصعب. إنه يحتاج إلى إرادة سياسية وقرارات تنظيمية تضع اللغة العربية الفصحى في قلب الحياة اليومية للفرد العربي. يستطيع المسؤولون في دول مجلس التعاون أن يتغنوا ما شاؤوا بكلمات الأصالة والتراث والأجداد والتقاليد... لكن كل ذلك سيصبح هباءً منثوراً إن ماتت اللغة العربية الفصحى.